قصة جميلة

مع تسلل خيوط أشعة الشمس إلى الأرض ، والبدء باتضاح معالمها ....... يظهر السهل مغطى بالندى وكأنه الضباب ....
وعندما تأخذ أشعه الشمس مكانها في الفضاء ، تبدأ قطرات الندى بالنزول عن أوراق التين والزيتون ، تاركةً مكانها لقطرات أخرى غيرها غداً ،،، بعد أن أتمت عملها بغسل أوراق الشجر والأعشاب ،وتبريد ثمار التين المتشققة جنباته من النضوج .............

هنا صوت امرأة تحيي جارتها ، وهناك أخرى تختار من أمام منزلها حطبها الذي ستطهو وجبة الغداء عليه ، وثالثه تدق باب جارتها لتسألها عن الجيشٍِِ "جيش الاحتلال" لمن من أبناء القرية قد حضر ، ورابعة تقطف العصفر (بحاكورتها ) واثنتان تحملان خطافه الصبر لالتقاطه ، وعلى رأسها قبعتيهما لجمع التين (القبعه/الكبعة : وعاء على شكل سلة من القش لوضع الأشياء فيها).
رجل مقرفص أمام منزله يلف سيجارة التبغ العربي الذي زرعه العام الماضي يتلقى تحيات الصباح من المارة .... وثاني يركب حماره متجها نحو الشرق لبناء ما تبقى من سنسلة الأرض التي اقتسمها هو وأخيه بعد وفاة والديهما ، يقابله متجهاً إلى الغرب آخر متعجل ينهر حماره ظاناً أن أحدهم قد سرق بعض حبات المشمش من شجرة ، وهذا المدرس صاحب الوقار يتجه إلى المقهى في وسط القرية ، بمشيه فيها شيئاً من السرعة ،حتى يتمكن من اللعب بالورق في أول طاوله ولا يقتصر حضوره على المشاهدة ،وأول طاولة يتم لعب الورق عليها تعتبر طاولة محترفين الورق ... حيث لايقل عن سبعه إلى ثمانية أشخاص يشاهدون اللعبة ، هذا إن لم يكن أكثر ....
ثغاء الأغنام يملأ المكان ، وهي متجه إلى المراعي في الجبال الشرقية ، تاركه آثاراً لها من الفضلات على الشارع هنا وهناك ، يصاحبها راعي بالرابعة عشر من العمر ، قد ترك مدرسته ليتفرغ للرعي قبل سنتين .. لأن إخوته الكبار تركوا مهنة الرعي وتفرغوا لمهنة البناء في إسرائيل ، حيث العائد المادي أكبر ، يتبع هذا القطيع بقرتان ، يقودهما عجوز في منتصف العقد السادس من العمر ...... يرفع الجهة اليمنى من ديمايته ويعلقه في حزامه، وعند تقاطع الطرق يلتف ناحية الشمال متجه حيث السهل ( الديمايه : ثوب من التراث يرتديه الفلسطيني ).
وما أن تسكن الشمس صدر السماء... لتثبت حرارتها ضاربه عرض الحائط ما يتمناه الإنسان من لطافة في الجو، خافيه ً أطلال الندى ،لاغيةً نسمات الفجر الاولى البارده ... حتى ترى بعض المركبات الخاصة التي ينقل أصحابها الناس بالأجرة إلى مدينتي نابلس أو جنين ، فهذا ينتظر الركاب داخل مركبته ،وهذا يقف مع أحدهم يتبادلا أطراف الحديث حول ما جرى بينه وبين شرطي المرور عندما أوقفه على أبواب نابلس طالباً منه إجازتي القيادة والمركبة ، وذاك ينظر إلى ساعته ،لأن احد الركاب الذي واعده مساءاً قد تأخر ولا ينقص المركبة سواه .....

هكذا كانت حياتهم ، نساء يحملن جرارهن غاديات وعائدات من وإلى عيون الماء ، يحصدن، يقلعن ، يزبلن الطوابين ، يعجن ، يخبزن و يحلبن الماشية ،و رجال مزارعون ورعاة ، يحفرون الآبار ، يبنون البيوت ، وأصبح الكثير منهم يعمل في إسرائيل .
من كان يذهب إلى الجامعة كان كالعلم، فهو معروف لدى جميع أبناء القرية، وذلك لسبب بسيط... لأنهم من كانوا يذهبون إلى الجامعة لا يتجاوزن أصابع اليد، ولم تكن إحدى الفتيات أحد هؤلاء الطلبة ... لأن الفتيات خلقن للمنزل ، والثوب الابيض ...
كان تبادل الاخبار عبر تجمعات الرجال في الحاره او ماكانوا يسمونه بالقسم "مركز القريه" وكان عند عيون الماء بالنسبة للنساء ....
هذا ما اعرف عن قريتي ... وما حدثني به والدي ، وماكنت أراه خلال زياراتي لها ،وما عايشته فيها عندما سكنتها لسنوات،
وها أنا أغيب عنها عقداً كاملاً ،كنت خلاله اتابع اخبارها وأجمع انباءها من هنا وهناك ، وارسم في خيالي واسمع .
وحتى أدرك ما حدث لها، كونته في ذهني خوفاً من المفاجئة...
أصبح المعظم من أبناء القريه يستيقظون من نومهم عندما تغزوا أشعة الشمس الحارة غرف نومهم،... والكثير منهم لم يَزُر أرضه إلا لأكل حبة تين او اثنتين في الموسم وذلك فقط كنزهة ورائحة الطوابين اندثرت لأن المخابز الآلية انتشرت في ضواحي القرية، أما عيون الماء فقد تلوثت بسبب الحفر الامتصاصية التي تحيط بها ، لكثرة الماء المنسكب من صنابير المياه ... التي وصلت مواسيرها جميع البيوت ، والمقهى الذي كان مقتصراً على الرجال للعب الورق وتبادل أطراف الحديث والأخبار ،أصبح يرتاده اليافعين للعب الورق ، وليس هذا فقط فبعد ان كان مقهى واحد ... اصبح للقريه عدة مقاهي ... ونصفها للانترنت .....................
عزيزي القارئ: مع اندثار طوابين قريتي ورائحتها اندثر كل ما كنت سأنوي كتابته ،،، فأرجو المعذرة.