كانت يهودُ تسكن الوادي جنوب المدينة المنورة، متجاورون في حصونهم -بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع- ونزلت عليهم الأوس والخزرج بين الحرّتين، وفي الشمال على بعد مئة ميل فقط من المدينة المنورة يهود خيبر ويهود وادي القرى ويهود فَدَك.
جمع غفير من اليهود في حصونٍ على الجبال يملكون العدد والعتاد... تُساندهم قبائل غطفان وذراع من المنافقين داخل الصف المؤمن. ولك أن تقارن بين عدد المسلمين (أقصى ما وصلوا إليه في حربهم مع اليهود كان ألف وأربعمائة يوم خيبر) وبين عدد اليهود (يهود قينقاع والنضير وقريظة وخيبر ووادي القرى وفدك، ومن عاونهم من غطفان)! ولك أن تقارن بين تجهيزات اليهود من حصون وآلات حرب ووفرة في المال والمئونة، وبين حال المسلمين وهم مائتا فارس ليس معهم إلا السيوف والحراب وبعضهم حاسر لا شيء عليه، وهم يقاتلون على جميع الجبهات!
لم أقصد أن أنبه على أن العدد ليس من الأهمية بمكان، ولكن لاحظت من تدبّري لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود في القتال وفي الدعوة باللسان، أنهم لم يخرجوا إليه أبدا لا بالسيوف ولا بالشبهات.
اتفقوا على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوته، ولم يخرجوا إليه، بل قلَّبوا الأحزاب حتى أحاطوا بالمدينة، ولم يشاركوا معهم بجيش. فقط غدرت قريظة حين بدى لها أن معسكر المسلمين في خطر قد يذهب به.
وكان المنطق يقول أن يبدؤوه بالقتال حين هاجر إلى المدينة، وأن يقضوا على الدعوة في مهدها، ولكنها يهود!!
بل لم يتعاونوا مع بعضهم حين كان النبي يقاتل فريقا منهم... وتدبر:
أُجْلِيَت بنو قينقاع، وجيرانُهم من بني قريظة والنضير يتفرجون ولم يحركوا ساكناً.
وحدث ذات الشيء مع بني النضير ولم تتحرك قريظة لنصرتهم.
وحوصرت قريظة ورضيت بالتحكيم (وهي تعلم أنه الذبح) ولم تقاتل.
ويهود خيبر كانوا وراء الجدر يرمون بالسهام، وحين التحمت الصفوف لم يثبت إلا نفر أو نفران -وهي قلة لا يُقاس عليها- وفرَّ الباقون إلى الحصن المجاور ثم الذي يليه حتى نزلوا على الصلح، ورضوا بالزرع وأذناب البقر.
وفي أمر الشبهات، لم تكن يهود تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحاوره هي بنفسها -إلا قليلاً جداً- وإنما احتضنت المنافقين وأمدّتهم بالشبهات كيما يتكلمون هم بها.
ويلاحظ أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان شديد الخشونة في التعامل مع يهود حين تتطاول، ولك أن تطالع كتب السير وكل من كتب عن الوقائع بين الرسول واليهود، لترى أنه ليس بين كشف عورة المرأة في سوق بني قينقاع وبين حصارهم أي شيء، لا يوجد أي كلام بين حادث الغدر -كشف عورة المرأة- وبين الحصار والإصرار على قتلهم لولا وقاحة ابن سلول في شفاعته لهم.
وحين حاولت يهود بني النضير اغتيال رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، لم يتكلم ولم يفاوض ولم يُظهر اعتباراً لهم ولحصونهم، ولا لأعوانهم المندسّين بين الصفوف، وقد ساندوا بني قينقاع بالأمس وشفعوا فيهم، فلم يقتلوا -أعني المنافقين-، بل وتسربت الأخبار أنهم تراسلوا في الخفاء وتقاسموا على النصرة، ولا لجيرانهم من إخوانهم بني قريظة ولا لأهل خيبر ووادي القرى وفدك وحلفائهم من غطفان... لم يلتفت لهذا كله؛ كان الرد حازماً جداً، وسريعاً جداً.
وغدرت قريظة فذبحت وما أمهلت قدر صلاة.
ثم تحرك لخيبر وهو يعلم جيداً مناعة حصونها وعدد رجالها وأن ورائهم غطفان... وكان ما كان.
إن يهود هي يهود... تجمع وتستكثر، وتُجعجع وتزمجر أمام نساءها وصبيانها وأذنابها من المنافقين، وتكبر في حس كل مرجف جبان أحب الحياة الدنيا على الآخرة، فيملأ (الفضاء) بإرجافه، وحين ترى يهود الموت لا تحملها ساقُها وتلقي سلاحَها وإن كانت مستيقنة من أنه الذبح -وليس إلا الموتُ يرجعها-.
فوالله لو لا اللين لما ثبتوا ساعة، فليسوا بأشجع من مَرَحَبْ وابن أخطب... واقرؤوا التاريخ! وفي المقابل حين تظهر يهود تقتل النساء والصبيان والشيوخ والشبان -وكتابهم يأمرهم بهذا-.
خندقُ اليهود لا يقف فيه اليهود وحدهم بل يقف فيه الأحمق المطاع بجيشه الجرار (عُيَيَّنَة بن حصن أعني!) ويقف فيه المنافقون الذين يحملون أسماء إسلامية، ويدّعون الانتساب للإسلام، وأنهم يفعلون ذلك من باب العقلانية وخشية الدوائر... والكل يرمي على الصف المؤمن.