من الطبيعي جداً أن يصرخ الذي يتألم بأعلى صوته حتى يُسْمِعَ من حوله ليقوموا بإغاثته، و من الطبيعي أيضاً أن يقوم من يَسْمَع استغاثات الملهوف أن يجيبها و يهب بأقصى ما يملك من سرعةٍٍ فاعلاً ما بوسعه لإنقاذ المستغيث. هذه هي طبيعة الإنسان، و لكن ليس كل إنسان. إنها طبيعة الإنسان الحر الذي لم يستمرئ الظلم و الخيانة و الذي يرفضهما حيثما كانوا. فهذا الصنف من البشر على استعدادٍ أن يقدم أغلى ما يملك من مالٍ و روحٍ و دمٍ من أجل رفع الظلم عن الناس و نشر العدل في الدنيا.
هذه مبادئٌ يستحق أن يفعل الإنسان الحر من أجل تحقيقها الأعاجيب، و لكن و للأسف إذا لم يوجد في بلاد العرب قاطبةً هذا الإنسان الحر، و إذا بحثنا عليه في مليار و نصف مليار مسلم و عربي لم نجده، فما الحلُ إذاً؟؟؟
و في المقابل ما الحل إذا استغاث الغرب ببترولنا ليزود به آلات القمع المسخرة لحربه ضدنا و أنجدناه؟؟؟ و ما الحل إذا استغاث الغرب بأرضنا لينطلق منها إلى ردعنا و أنجدناه؟؟؟ و ما الحل إذا طلب الغرب منا أن لا نأكل و لا نشرب إلا من تحت يديه الشريفتين حتى أجبناه؟؟؟ و ما الحل إذا أراد الغرب أن يوفر لنا العيش في سلامٍ و أمانٍ فصدقناه؟؟؟
نعم..فالغرب يعلم أن العرب المساكين لديهم الثروة و لكن لا يعرفون كيف يستغلونها، لذلك و من منطلق حرصه عليهم قرر أن يشتريها منهم بأبخس الأثمان بدلاً من أن تُتْرَكَ في الأرض بلا فائدة.. و علم أن العرب لا يجيدون الحرب و الدفاع عن أنفسهم فقرر أن يقيم على أرضهم القواعد العسكرية ليدافع عنهم و يحميهم..و قرر أن يضغط على نفسه و يتصدق على العرب المساكين الذين لا يعرفون الزراعة و الحراثة أن يمد لهم يديه النظيفتين لإطعامهم..و قرر أن يوفر لهم السلام و الأمان في أراضيهم و يغدق عليهم من مبادئه السامية و عدله المطلق عندما رآهم لا يفهمون في هذا المجال شيئاً، و ذلك لرأفته بهم و حرصه عليهم.
فإذاً لا داعي يا غزة أن تستنجدي بالعرب و المسلمين في يومٍ تودعين فيه ألافاً و ليس عشرون ابناً فقط من أبناؤك سالت دماؤهم الزكية الغالية عليكِ على مسمع و مرأى منهم. فلو كان بالإمكان إنجادك لأنجدوكي من غير أن تستنجدي. فعليكِ يا غزة إذاَ أن تستنجدي بالغرب الذي لطالما تغنى بالعدل و الديمقراطية و تحرير الشعوب و نصرتها.
و لكني أنظر إلى غزة الصامدة الصابرة على الحصار و المذابح و الأحزان..غزة الصامدة في وجه الاحتلال و التي لم و لن تستسلم يوماً أمامه..غزة الصابرة على ظلمٍ ذوي القربى..غزة الصابرة التي تدفع ثمن الحرية من دم فلذات أكبادها تعي حقيقة الغرب فتأبى أن تلوذ إلى أحضانه و تطلب مساعدته.
و كأني بغزة العنيدة تدرك أن طعم الويلات التي تذوقها يوماً بعد يوم يأتي من الغرب، و كأني بها أيضاً تدرك بأن غصن الزيتون الذي يحمله الغرب مسموماً، فهي تعي عداوة الغرب و لا تؤمن بمبادئه و لذلك فهي ما تزال تُعَلِّمُ أبناءها ما قاله الشاعر عن الغرب:
الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمى بسهام المغريات الدينا
الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يداً أبدى لها السكينا
الغرب يكفر بالسلام و إنما بسلامه الموهوم يستهوينا
الغرب يحمل خنجرا ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا
فإذاً لا بأس عليكِ يا غزة ما دمت كفاً يواجه مخرز الظلم الغربي العالمي. لا بأس عليكِ يا غزة ما عشتِ عالية الهامة مرفوعة اليد مدافعةً عن المبادئ و الحقوق.
ستبقين شامخة الأنف يا غزة بأبناؤك الذين لم و لن يبخلوا يوماً بدمائهم و أرواحهم عليكِ. و ستنتصرين يا غزة رغم أنف الظالمين، و سيندم المحتل يوماً على كل لحظةٍ عاشها على ترابك و على كل حُزْنٍ كان به سبباً ألَمَّ بكِ.