سجل إسرائيل منذ تأسيسها بالقوة والإرهاب في فلسطين العربية عام 1948 حافل بجميع أنواع الجرائم المنصوص عليها في وثائق واتفاقيات القانون الدولي الجنائي, وهي جرائم الحرب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان. ويزداد هذا السجل تضخما وبشاعة بتكاثر الجرائم الإسرائيلية بمرور السنين. وآخر هذه الجرائم الإسرائيلية تلك التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية المسلحة خلال عدوانها الأخير على قطاع غزة على مرأى ومسمع العالم, والتي أثارت غضب واستياء الشعوب فخرجت المظاهرات في مختلف أرجاء العالم تطالب بوقف العدوان والمجازر الإسرائيلية.
وأصدر مؤتمر القمة العربية الاقتصادية الذي عقد في الكويت بتاريخ 20/1/2009 بيانا حول الوضع في قطاع غزة خصوصا والوضع الفلسطيني عموما, تضمن إدانة هذا العدوان الهمجي الذي أوقع آلاف الشهداء والجرحى وأحدث دمارا هائلا, وتحميل إسرائيل المسؤولية القانونية عما ارتكبته من جرائم حرب مع اتخاذ ما يلزم نحو ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم. وجدير بالذكر هنا أن وزراء العدل العرب سبق أن قرروا في مؤتمرهم الذي عقد يوم الأربعاء 14/5/2008 تكوين لجنة لتوثيق جرائم الحرب الإسرائيلية وإعداد ملفات كاملة لهذه الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني على مدار العقود الستة الماضية, وطالب وزراء العدل العرب دول العالم بأن تعمل على ملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين على أراضيها وبموجب قوانينها, حيث إن قوانين بعض دول العالم تمنح قضاءها الاختصاص بمحاكمة مجرمين ارتكبوا جرائم خطيرة معينة في مناطق أخرى من العالم.
وأدت جرائم العدوان الإسرائيلي الأخيرة على غزة إلى قيام عديد من الهيئات والمنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان في العالم العربي وأوروبا وأمريكا اللاتينية إلى المطالبة بإجراء تحقيق في الجرائم الإسرائيلية وملاحقة ومحاكمة مرتكبيها, وتلقى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية 16 شكوى وطلبا من هذه الهيئات والمنظمات لفتح تحقيق دولي في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة, واتهام 14 شخصية عسكرية وسياسية إسرائيلية بارتكابها وإصدار أوامر بذلك.
وطالب التقرير المبدئي للبعثة المشتركة الفيدرالية الدولية والشبكة الأورمتوسطية لحقوق الإنسان التي زارت قطاع غزة, بضرورة الإسراع بإعمار المناطق السكنية المنكوبة التي دمرتها الآلة العسكرية الإسرائيلية, موضحا أن إسرائيل استخدمت قنابل محرمة دوليا في عدوانها على السكان المدنيين الفلسطينيين تحدث نزيفا داخليا وبترا للأعضاء وتهتكا في الأعضاء الحيوية للجسم, إضافة إلى قنابل الفسفور الأبيض الحارقة التي أدت إلى زيادة أعداد الضحايا والمصابين.
وقال التقرير إن إسرائيل استخدمت وسائل منهجية في جريمتها على نطاق واسع ضد الأطفال والنساء بما يمثل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ونبه التقرير إلى ضرورة توفير الحماية اللازمة للشعب الفلسطيني وتوثيق الانتهاكات التي حدثت في حق السكان المدنيين من عمليات قتل وإبادة, وتقديم الأدلة والوثائق على ما حدث إلى المجلس الدولي لحقوق الإنسان والأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية لعقاب مرتكبي هذه الجرائم البشعة.
كما دعا مجلس الوزراء السعودي في بيانه الذي أصدره بعد جلسته الأسبوعية التي عقدت بتاريخ 29/1/1430هـ الموافق 26/1/2009 برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, إلى تحرك عربي ودولي لإجراء تحقيق واسع لجرائم إسرائيل في قطاع غزة وقتلها وإصابتها الآلاف من الأبرياء العزل في القطاع وتدمير إجرامي واسع للممتلكات والبنى فيه, بانتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني, وضرورة محاسبتها على تلك الجرائم. كما طالب مجلس جامعة الدول العربية الذي انعقد على مستوى المندوبين الدائمين يوم الإثنين 26/1/2009 الجمعية العامة للأمم المتحدة بتكوين لجنة تحقيق دولية في الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة في إطار زمني محدد, وإنشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين, كما قرر المجلس تكوين لجنة تحقيق من شخصيات عربية دولية للتوجه إلى قطاع غزة وإعداد تقرير عن الجرائم الإسرائيلية المرتكبة ضد المدنيين بما في ذلك استخدامها الأسلحة المحرمة دوليا.
ولمواجهة احتمالات الملاحقة والمحاكمة قررت الحكومة الإرهابية الإسرائيلية في جلستها الأسبوعية يوم الأحد 25/1/2009 منح التغطية والدعم التامين لكل مسؤول عسكري أو سياسي إسرائيلي يتعرض للملاحقة على خلفية جرائم الحرب التي ارتكبت في غزة وصرح مجرم الحرب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بأن الجنود والضباط الذين شاركوا في الهجوم الأخير على قطاع غزة سينالون الحماية القضائية التامة في إسرائيل والخارج في حال ملاحقات قضائية في حقهم. وأكد أولمرت أنه تقرر تكليف وزير العدل الإسرائيلي بترؤس لجنة وزارية لتنسيق الجهود في إسرائيل من أجل تأمين الدفاع القانوني لكل من شارك في العملية.
والسؤال المطروح: هل يمكن مقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ وإذا كان ذلك غير ممكن, هل توجد وسيلة أخرى لمحاكمة هؤلاء المجرمين؟
باستقراء المواد المتعلقة بالاختصاص الواردة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يمكن القول بإيجاز إنه يشترط لرفع الدعوى أمامها ما يلي:
1 ـ يجب أن تقام الدعوى من قبل دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة.
2 ـ يجب أن تكون الدولة التي يكون المتهم بارتكاب الجريمة أحد رعاياها طرفا في هذا النظام أو قبلت باختصاص المحكمة.
حيث إن إسرائيل ليست طرفا في اتفاقية إنشاء المحكمة فلا يمكن للدول العربية التي انضمت إلى هذه الاتفاقية مثل الأردن أن تقيم الدعوى. بيد أنه يمكن بموجب الفقرة (ب) من المادة 13 من النظام الأساسي للمحكمة إحالة القضية إلى هذه المحكمة بقرار يصدره مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة, وهذا ما فعله المجلس بشأن قضية دارفور, حيث أحالها إلى المحكمة على الرغم من أن السودان ليس طرفا في النظام الأساسي لهذه المحكمة. ولو تقدمت الدول العربية إلى مجلس الأمن بطلب إحالة مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى المحكمة الجنائية الدولية, فإن الاحتمال الأرجح أن تستخدم الولايات المتحدة حق النقض "الفيتو" كدأبها في معظم القضايا والشؤون التي تتعلق بإسرائيل.
ولكن هذا الاحتمال يجب ألا يمنع الدول العربية من السعي ومحاولة استصدار قرار من مجلس الأمن وبذل أكبر جهد ممكن لتجنب الفيتو الأمريكي, فإذا أخفقت في تحقيق هذه الغاية المرجوة ولم يستطع مجلس الأمن إصدار قرار في هذا الشأن بسبب "الفيتو" فإنه يتعين حينئذ اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة استنادا إلى المبدأ المعروف باسم "الاتحاد من أجل السلام", ومعناه أنه إذا تعذر على مجلس الأمن اتخاذ قرار لمواجهة موقف يهدد الأمن والسلم الدوليين فمن الممكن اللجوء إلى الجمعية العامة لاستصدار القرار. ولجأت مصر إلى هذا المبدأ إبان حرب السويس عام 1956, ولذلك فإنه يتعين على الدول العربية بذل كل جهد ممكن لاستصدار قرار من الجمعية العامة بإحالة قضية الجرائم الإسرائيلية إلى المحكمة الجنائية الدولية أو تكوين محكمة دولية جنائية خاصة بشأن محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين على غرار المحاكم الجنائية الدولية الخاصة التي تم تكوينها بشأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في يوغسلافيا السابقة وفي رواندا في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
وإذا أخفقت الدول العربية في استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة فإنه يوجد في هذه الحالة خياران:
الخيار الأول مقاضاة المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين أمام المحاكم الوطنية في بعض الدول التي يسمح قانونها الوطني لمحاكمها بأن تنظر وتفصل في جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت خارج أقاليمها وفقا لمبدأ الاختصاص العالمي Universal Jurisdiction.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه سبق أن رفعت قضية ضد أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل السابق أمام إحدى المحاكم البلجيكية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها إبان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982, ولكن المحكمة قررت رد الدعوى طالما أن شارون يتبوأ منصب رئيس الوزراء, وذلك استنادا إلى مبدأ حصانة رؤساء الدول, حيث يعارض العرف الدولي ملاحقة رؤساء الدول والحكومات أمام محاكم دولية أجنبية, ثم اضطرت بلجيكا تحت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية إلى تعديل قانونها الذي كان يأخذ بمبدأ الاختصاص القانوني العالمي, حيث أصبح اختصاص القضاء البلجيكي مقتصرا على البلجيكيين أو من يقيمون في بلجيكا بصفة دائمة. وتوجد أيضا سابقة أخرى منظورة أمام القضاء الإسباني, حيث رفع المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان دعوى ضد عدد من القادة الإسرائيليين بتهمة تورطهم في ارتكاب جرائم حرب حدثت بسبب غارة إسرائيلية في تموز (يوليو) 2002 على قطاع غزة استهدفت ناشطا فلسطينيا وأدى القصف الإسرائيلي إلى قتل وجرح العشرات من المدنيين الأبرياء, ولم يتضح حتى الآن مآل هذه الدعوى. وجدير بالتنبيه هنا أنه يتعين الحذر والتأني قبل الإقدام على مقاضاة المجرمين الإسرائيليين أمام المحاكم الأوروبية, إذ يخشى أن تؤدي الضغوط السياسية وأجواء الكراهية السائدة في الغرب ضد العرب والمسلمين إلى تبرئة ساحات هؤلاء المجرمين بأي ذريعة من الذرائع الواهية, وعندئذ يصبح متعذرا مقاضاتهم أمام محاكم أخرى إعمالا لمبدأ عدم جواز المحاكمة عن الجريمة ذاتها مرتين, وأخذت المادة 20 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بهذا المبدأ.
والخيار الآخر أن تسن جميع الدول العربية تشريعات تخول محاكمها الاختصاص القضائي العالمي بشأن الجرائم الخطيرة التي تهم المجتمع الدولي مثل جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية لتحاكم بموجبها مرتكبي هذه الجرائم من القادة والمسؤولين الإسرائيليين.
وهنا أود التذكير بأن إسرائيل اختطفت من الأرجنتين في سنة 1960 أحد القادة الألمان يدعى أودلف إيخمان وحاكمته في إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية متذرعة في ذلك بقانون أصدرته عام 1950 أطلقت عليه اسم "قانون عقوبات المتعاونين مع النازيين" ومتذرعة أيضا بقانون آخر أصدرته عام 1960 أباحت به لنفسها إجراء المحاكمات عن الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود حتى تلك التي ارتكبت قبل أن تظهر هي ذاتها إلى حيز الوجود, وأصدرت المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس الغربية حكمها على إيخمان في 15/2/1961 بإعدامه, فاستأنف الحكم وأيدت المحكمة الاستئنافية هذا الحكم في 29/5/1962 وتم تنفيذ حكم الإعدام فيه.
حان الوقت للدول العربية أن تتبنى مبدأ الاختصاص القضائي العالمي بشأن محاكمة مرتكبي جرائم الحرب والعدوان والإبادة والجرائم ضد الإنسانية, خصوصا تلك التي ارتكبت أو ترتكب ضد أي شعب عربي.