تتربع جرثومة المعدة على رأس قائمة الميكروبات العالمية من ناحية الانتشار بين الناس، ومن ناحية إثارتها لنوع ضبابي من الاهتمام الطبي في كيفية التعامل معها. وهي ببساطة، شديدة الاختصار في العبارة وواسعة في دلالة المعنى والتبعات، الأولى في إصابة البشر، ذلك أن أكثر من نصف سكان الأرض يستضيفونها اليوم في معدتهم، إما كضيف ثقيل الظل يعيث فساداً، على هيئة قروح أو أعراض عسر الهضم فيها، أو كضيف خامل بشكل عام يتعايش بشكل عادي لم يثبت ضرره. ولذا لا تزال جرثومة المعدة تستحوذ على جانب مهم من الاهتمام الطبي العلمي والتطبيقي في فهم أسباب الإصابة بها أولاً، ومعرفة أنواعها الشرسة ثانياً، ووسائل التخلص منها ثالثاً. رابعاً، وهو الأهم، متى يجب الكشف عن وجودها لدى إنسان ما بعينه، ومن ثم متى يجب معالجتها آنذاك؟
* الملوحة وشراسة الجرثومة أضرار الإكثار من تناول الملح أو المأكولات المالحة كثيرة. وإن كان البعض يظن أن الأمر مرتبط فقط بالقلب وضغط الدم والكلى، فإن الحقيقة خلاف ذلك. وضمن فعاليات اللقاء السنوي العام للمجمع الأميركي لعلم الميكروبات، الذي عُقد في تورنتو بكندا، تم في الثاني والعشرين من هذا الشهر عرض واحدة من الدراسات المهمة حول فهم جوانب من نشاط جرثومة المعدة، وحول توسيع المعرفة بهذه الجرثومة التي لا تزال تُحير الأطباء. وقالت الدراسة الأميركية للباحثين من جامعة الخدمات الموحدة لعلوم الصحة في بثسيدا بالولايات المتحدة، إن تناول وجبات عالية الملوحة يرفع من مخاطر الإصابة بقروح المعدة أو قروح الإثني عشر.
ووجد الباحثون أن التركيزات عالية الملوحة في المعدة، جراء تناول وجبات مالحة، تعمل على تحفيز النشاط الجيني للبكتيريا المتسببة بقروح المعدة أو الإثني عشر، ما يجعلها بالمحصلة تتحول إلى أنواع أشد شراسة وعنفاً في التسبب بالإصابة بقرحة المعدة أو الإثني عشر. وقال الباحثون إنه يبدو أن جرثومة المعدة تراقب عن كثب ما يتناوله الإنسان، المستضيف لها، من أصناف الأطعمة ومميزاتها. وكانت الملاحظات العلمية، منذ فترة، قد رصدت أن ثمة رابطا ما بين نوعية الأطعمة التي يتناولها المرء وبين نشاط تلك البكتيريا الحلزونية للتسبب بقروح المعدة أو الإثني عشر. وما تدل الدراسة الحديثة عليه هو تأكيد الرابط التحفيزي بين بكتيريا المعدة والمأكولات المالحة. وتوصل الباحثون إلى نتائج معقدة حول علاقة ملوحة الوسط المعدي بناحيتين. الأولى درجة نمو وتكاثر جرثومة المعدة الحلزونية، والثانية تغيرات بنية وتراكيب جينات تلك الجرثومة المُؤثرة على درجة قوتها، حيث قالوا إن الوسط عالي الملوحة يُؤدي إلى انخفاض حاد في معدل تكاثر بكتيريا قرحة المعدة، ووتيرة انقساماتها، ما يُؤدي بالنتيجة إلي نقصان تعدادها في المعدة آنذاك. وإلى هنا تظل القصة جميلة الأحداث، لكن تداعيات ذلك الانخفاض الحاد في التكاثر وتزايد مشاعر الخطر على الحياة لدى تلك البكتيريا، في هذه البيئة الشديدة الملوحة، يضطر جرثومة المعدة إلى إعادة برمجتها، وبشكل بالغ، لأنظمة استراتيجيات صراعها للبقاء والعيش. وهي إعادة برمجة جذرية وعميقة، تظهر على سلوكيتها بشكل واضح، تطال أنشطة التراكيب الجينية لها.
وتحديداً لاحظ الباحثون مظاهر على مجتمعات خلايا البكتيريا لتُصبح البكتيريا أكثر طولاً، وتتجمع على بعضها البعض لتشكل مجموعات من السلاسل الطويلة، أي ما يجعلها تتخذ أساليب مختلفة بغية حماية نفسها من تلك التأثيرات التي يُخلفها نشوء وسط مالح في المعدة.
وحينما تعمق الباحثون في الدراسة وجدوا أن البيئة الشديدة الملوحة ترفع من درجة الاستنساخ والطباعة التي يجب أن تتم بصورة طبق الأصل، لاثنين من الجينات المسؤولة عن درجة الخبث في أساليب نشاط جرثومة المعدة. وهذا الأمر يُفسر ظهور نشاط يتسم بسلوك العنف والشراسة لجرثومة المعدة إزاء وجود تلك البيئة الغذائية الشديدة الملوحة المهيجة لها، ما يُؤدي إلى ارتفاع احتمالات مخاطر الإصابة بالقروح، إما في المعدة أو الإثني عشر.
وهو أيضاً ما يُعيد إلى الأذهان إعطاء شيء من التبرير للملاحظات العلمية السابقة حول دور المأكولات المالحة في التسبب بسرطان المعدة، وهو ما يفترض أن الأمر إنما يحصل عبر إثارة نزعات أكثر شراسة في بعض من سلالات جرثومة المعدة، والتي هي بالأصل أحد العوامل المتسببة بسرطان المعدة من خلال إثارتها المتكررة لعمليات الالتهابات والتقرحات في المعدة.
* جرثومة المعدة بالرغم من أن أولى الملاحظات عن بكتيريا حلزونية الشكل توجد في بطانة المعدة، كانت على يد العلماء الألمان عام 1875. إلا أن الباحثين نسوا الأمر لأكثر من مائة عام، وظلوا يتخبطون بين التوتر النفسي وبين تناول البهارات والفلفل الحار كأسباب محتملة لنشوء قروح المعدة أو الإثني عشر، وهو ما ادى الى معاناة الملايين منها لعشرات العقود، إما بعيش الألم في صمت أو بالتعرض لعمليات جراحية غايتها استئصال أجزاء من المعدة أو الإثني عشر أو قطع التغذية العصبية لأي منهما، أو ببساطة الوفاة نتيجة نزيف القروح في المعدة أو الإثني عشر، أو نشوء السرطان.
وأتى الحل للعالم من أستراليا، حيث أعلن الأطباء فيها عام 1979 عن نجاحهم في عزل تلك البكتيريا الحلزونية الشكل ذات الذيول المتعددة. والأهم، قدرتهم على تنمية تكاثرها في المختبرات، وبالتالي دراستها بشكل أكثر جدية، ما أدى إلى معرفة أنها السبب في غالبية حالات قروح المعدة والإثنى عشر، وليس الفلفل أو البهارات، أو حتى التوتر النفسي. وهذه الحقيقة، التي يعترف الوسط الطبي بها، إنما مردها هو تلك الاعتقادات غير المبررة وغير الواقعية في افتراض أن عموم أنواع البكتيريا لا تستطيع العيش في الوسط الحمضي للمعدة. بالرغم من المعرفة بأن البكتيريا قادرة على عبور المعدة والوصول إلى الأمعاء، والتسبب بالتالي بحالات الالتهابات فيها. وحتى لو كانت الفترة الزمنية قصيرة في البقاء بالمعدة آنذاك، إلا أنها قادرة على تحمل تلك الحموضة بآليات وقائية شتى. وهو ما كان يجب أن لا يجعل العلماء يفترضون عدم إمكانية بقاء البكتيريا في المعدة لمدة زمنية طويلة! وتم إطلاق اسم هليكوباكتر بيلوري على جرثومة المعدة بعد عام 1989، حينما أظهرت دراسات الحمض النووي أن جينات تلك الجرثومة البكتيرية مختلفة عن جينات أنواع كامبيلوبكتر. واشتقت كلمة هيليكو من شكلها الحلزوني الشبيه بمسمار البرغي أو البريمة، وبيلوري من كلمة البواب، إشارة إلى البوابة فيما بين مخرج المعدة وبداية الإثني عشر.
وفي حين أن بكتيريا هليكوباكتر بيلوري تُصيب الإنسان، فيما هو معلوم حتى اليوم، في المعدة والإثني عشر، إلا أن ثمة أنواعاً منها تُصيب أجزاء أخرى من أعضاء أجسام الحيوانات والطيور، وقادرة على عدوى الإنسان، كالمعدة والإثني عشر والكبد. بل قد تتسبب بالتهابات في كبد الحيوانات، من غير المعروف حتى اليوم دورها في إصابة كبد الإنسان.
* مميزات وقدرات وثمة مميزات عدة لهذه الجرثومة، تجعلها قادرة على البقاء في الوسط الحمضي للمعدة بكل أمان، أولاً، وعلى الدخول والعيش في طبقات متفاوتة من بطانة المعدة أو الإثني عشر، ثانياً. وعلى اختراق أنسجة بطانة المعدة نفسها بدرجات متفاوتة العمق، وصولاً حتى إلى الأوعية الدموية فيها، والتسبب بالقروح، ثالثاً.
البكتيريا هذه تحتاج عادة إلى كميات من الأوكسجين قليلة، وتفرز حولها غطاء من مواد كيميائية قادرة على معادلة والغاء مفعول الحمض الحارق للبروتينات وتراكيب خلايا البكتيريا أو غيرها من الخلايا الحية عموماً. كما أن شكلها الحلزوني والذيول التي في مؤخرتها، تعطيها القدرة الفيزيائية الحركية على التموضع داخل بطانة المعدة واختراقها كيفما شأت، أو كيفما ساعدتها الظروف على تحقيق أي من درجات الاختراق تيسرت لها. كما أن لديها قدرة على التحول من الشكل الحلزوني الطويل إلى الشكل المتكور، خاصة حينما تكون في أوساط بيئات خارج الجسم الحي. وهو ما تم التعرف عليه في مياه الشرب، في الولايات المتحدة وغيرها من مناطق العالم.
والشكل المتكور، وليس فقط الحلزوني، قادر على دخول المعدة والبقاء فيها واختراق بطانتها للالتصاق بها. لكن من المعروف تسبب النوع المتكور بقروح المعدة. ولم يتمكن الباحثون حتى اليوم من زراعة النوع المتكور في المختبرات للدراسة برحابة أكبر.
وبمساعدة الذيول والشكل الحلزوني لها، تقوم البكتيريا هذه باختراق بطانة المعدة والبقاء داخلها. والمعلوم أن بطانة المعدة عبارة عن طبقات. ولا يعني مجرد وجود البكتيريا، أياً كانت، ظهور تقرحات عليها. وهذه نقطة مهمة جداً. وهي التي تُفسر دواعي التوجه الطبي بعدم جدوى إجراء فحوصات جرثومة المعدة لدى من لا يشكون من شيء. وهذا الوجود لجرثومة المعدة في بطانتها يكون إما على هيئة التحاف جرثومة المعدة للطبقة الجيلاتينية السطحية المغطية لخلايا بطانة المعدة، أو وجودها في ما فوق خلايا بطانة المعدة مباشرة، أي في عمق الطبقة الجيلاتينية. أو على هيئة تكوين تجويف حويصيلي vacuoles في ما بين تراص طبقات خلايا بطانة المعدة، لتمثل الحويصلات هذه مستعمرة محمية داخل أنسجة المعدة، وتستوطنها بالتالي مجموعات بكتيريا هليكوباكتر بيلوري، حيث تعمد البكتيريا إلي إفراز مواد تلتصق بأجزاء من خلايا المعدة، تعمل على ربط تثبيتي للبكتيريا بهذه الخلايا. ولقائل أن يقول: كل هذا ليس بالضرورة أن يكون سبباً كافياً لمعاناة الإنسان وظهور القروح في المعدة أو الإثني عشر. وهذا صحيح لو اقتصر الأمر على مجرد الوجود النزيه أو البريء. لكن الإشكالية هي أن البكتيريا الحلزونية هذه تريد أن تعيش، وعيشها مستحيل ما لم تُقاوم حموضة سوائل المعدة. وهو ما يتحقق بالعمل على معادلة وإلغاء حمضية السوائل هذه. والطريقة التي تلجأ إليها البكتيريا ببساطة تتمثل في إفراز كميات عالية من أنزيم يُوريز Urease في داخلها وفيما حولها. وهذا الأنزيم يعمل على تحلل مادة يوريا urea التي تُفرزها عادة المعدة، لتكوين ثاني أكسيد الكربون ومادة الأمونيا ammonia. ومادة الأمونيا هذه هي ما تعمل على معادلة وإلغاء تأثير أحماض المعدة. لكن مادة الأمونيا نفسها سامة على خلايا بطانة المعدة نفسها، وتعمل مع غيرها من السموم التي تُفرزها بكتيريا هليكوباكتر بيلوري على تلف أنسجة بطانة المعدة وتهتكها، ما يُؤدي بالمحصلة إلى ظهور القروح.
* سلالات متفاوتة الشراسة والجانب الآخر المهم في الأمر هو أن أنواعاً معينة من سلالات بكتيريا هليكوباكتر بيلوري لديها قدرات على إفراز مواد أخرى، من داخل جدران الجرثومة نفسها، تتسبب بعمليات التهابات في أنسجة بطانة المعدة. وهو ما يُسهل تغلغل الجرثومة بشكل أعمق إلى طبقات أخرى من أنسجة المعدة. وهذا ما يُؤكد الحقيقة الطبية اليوم بأن ثمة سلالات متفاوتة من بكتيريا هليكوباكتر بيلوري. والدراسات الجينية اليوم إنما هي متجهة بالأساس نحو معرفة ما هي السلالات المرضية وما هي السلالات غير المرضية من جرثومة المعدة. وضمن السلسلة المكونة للجينات، التي تُعد بالألوف، والمكون بعضها من أكثر من 1.7 مليون من الأزواج المتقابلة، ثمة ما يُعرف بالجزر المتخصصة في الشراسة المرضية، أي التي يدل وجودها على أن تلك السلالات من بكتريا جرثومة المعدة سيتسبب بظهور قرحة المعدة والإثني عشر. وهو ما تأكد علمياً من أن ثمة أنواعاً من جرثومة المعدة تفتقر إلى وجود هذه الخصائص في التسبب بالحالات المرضية. وهي الأنواع الأكثر شيوعاً وانتشاراً في الوجود داخل نسبة عالية من الناس الذين تثبت التحاليل مجرد وجود الجرثومة تلك في المعدة لديهم دون شكواهم من أية أعراض لـ«حالة عسر الهضم» بالمعنى العلمي الدقيق للعبارة. والواقع أن الأمر أبعد من هذا بكثير، ذلك أنه سبق لملحق الصحة في «الشرق الأوسط»، قبل بضعة أشهر، عرض نتائج دراسات طبية اُستخدمت فيها حقيقة انتشار سلالات دون أخرى من بكتيريا هليكوباكتر بيلوري في مجتمعات مختلفة، ومنذ آلاف السنين، وذلك ليس لدواع طبية، بل لدواع تتعلق بفهمنا للخريطة التاريخية لموجات الهجرة البشرية منذ آلاف السنين بين أرجاء الأرض والبدء في عمارة المناطق غير المأهولة منها. واستخدم باحثو علم أجناس البشر هذه البكتيريا تحديداً، واستدلوا من خلالها على أن الهنود في مناطق الأمازون هم من أصول بشرية قدمت من شرقي آسيا في أزمان سحيقة، تتجاوز 11 ألف سنة، وليس من مناطق أوروبية المنشأ! ولذا تتفق المصادر الطبية على أن أكثر من 90% من المُصابين بوجود هذه الجرثومة في المعدة، هم في الحقيقة لا يشكون شيئاً البتة من جراء ذلك! هذا بالرغم من أن المجتمعات العالمية المختلفة، هي مختلفة أيضاً في مدى انتشار وجود جرثومة المعدة لدى أفرادها. وبشكل عام فإن الدول المتقدمة تنخفض فيها النسبة، مقارنة بالدول النامية، ففي الولايات المتحدة تصل النسبة حوالي 52%، وفي السعودية تصل النسبة إلى حوالي 60% وفق ما يُؤكده الدكتور محمد القرعاوي، رئيس قسم الجهاز الهضمي بالمستشفى العسكري سابقاً واستشاري أول جهاز هضمي في عيادات هضم بالرياض. بينما في بعض الدول الآسيوية أو الأفريقية النامية تصل النسبة إلى ما بين 80 و 90% من الناس فيها. وحتى في المجتمع الواحد تتفاوت نسبة الإصابة، حيث تعلو لدى التقدم في العمر، حيث أن نسبة وجودها لا تتجاوز 20% بين منْ هم فوق الأربعين بالولايات المتحدة، وتتجاوز 45% بين منْ تجاوزوا الستين من العمر فيها. وكذلك تعلو هناك بين منْ هم من أصول أفريقية أو لاتينية، وبين منْ مستواهم التعليمي أقل، أو منْ وُلدوا أو عاشوا في مناطق الدول النامية.
* متى يُجرى فحص جرثومة المعدة.. ومتى تُعالج؟
> دعايات إجراء التحليل الطبية على وسائل الإعلام..... على ماذا تُبنى؟ الاستغلال هو من السلوكيات البشعة. وأسوأه ما كان متعلقاً بجانب صحة الإنسان وعلاج أمراضه. ولا فرق بين استغلال «بسيط» أو استغلال «فاحش» طالما كان الأمر متعلقاً بالأمانة الطبية في النصيحة أو المعالجة. وما يغيب عن أذهان الكثيرين هو أن وجود جرثومة المعدة، أو بكتيريا هليكوباكتر بيلوري، في الأجزاء العلوية من الجهاز الهضمي شيء مختلف تماماً عن تسببها بقروح المعدة أو الإثني عشر، وبالتالي ضرورة البدء في معالجتها. هذا الأمر الذي قد تستغله بعض مرافق تقديم الخدمات الطبية، الخاصة، للناس في عرض خدمات فحصية أو علاجية لمن شاء منهم دونما ضرورة طبية، وعلى صفحات الجرائد والمجلات. وهذا ما يفرض طرح موضوع الدعايات لخدمات طبية تقترحها بعض العيادات أو المستشفيات، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن زيادة الأرباح المادية لتلك المنشآت الطبية «مسؤولية الغلابة» من الناس، عليهم القيام بها! ما يُبرر لهذه المستشفيات أو العيادات الخاصة اعتماد أسلوب دغدغة مشاعر الناس في حرصهم على سلامة الجسم وصحته، ويُعطيها بالتالي الأمان، في سبيل انتزاع استنزافي لتلك الدراهم القليلة أو الكثيرة القابعة في جيوب الناس، من خلال تبني منهجية لا تمت بصلة إلى ممارسة تقديم الخدمات الكشفية التشخيصية أو العلاجية وفق دواعي طبية ثابتة الجدوى والفائدة.
وثمة موجات من مسلسلات دعايات الحميات الغذائية والأعشاب الطبية وأنواع شتى من عبوات الحبوب العلاجية المُقوية ومعالجات البشرة والأسنان وعمليات المعدة وأنواع شتى من الفحوصات الطبية للقلب أو الكبد أو الكلى، يحتار الأطباء في معرفة ما هي المصادر الطبية العالمية، أو المحلية، التي تتضمن إرشاداتها أي دعم علمي لإجراء تلك الأمور التي يتم الداعية لها. وإن كان ثمة من توجه إلى اعتماد الطب المبني على الدليل والبرهان، لضبط الانفلات في سوق الخدمات الطبية، الذي يستقبل الكثير من الوسائل من الشرق والغرب، فإن من المهم ملاحظة ضرورة خضوع الدعايات الطبية العلاجية أو الاستكشافية، لنفس تلك الأسس وفق ما تبنته الأدلة والبراهين العلمية للمصادر الطبية المعتبرة.
وكنموذج للعرض تلك الدعايات التي تتحدث عن إجراء اختبارات جرثومة المعدة لكافة الناس الراغبين في ذلك. والسؤال هو: لماذا إجراء هذه الاختبارات لمن لا يشكون من شيء؟ و السؤال الآخر: منْ يُوجه الناس نحو إجراء الفحوصات الطبية المعينة، هل هي الدعايات ودغدغاتها لمشاعر الناس الحريصين على سلامة صحتهم، أم هم الأطباء بعد معاينتهم للإنسان وتقريرهم، بنزاهة أمانة شرف الخدمة الطبية، مدى حاجتهم لأي من تلك الفحوصات؟. والسؤال التالي: بعيداً عن العمليات التجميلية الخاضعة للرغبات الشخصية، هل من ضوابط طبية تُطبق، وفق الإرشادات الطبية المعتمدة، على إجراء عمليات أخرى كربط أو تحزيم المعدة أو علاجات قصور النظر أو الأسنان أو غيرها؟.
الكل يطمح إلى العافية والسلامة من الأمراض، لكن هل هذا مبرر لأن يُحث، من لا يعلم ولم تُوضح له حقائق الأمور الطبية، إلى الخضوع لهذه الفحوصات أو العمليات؟ بمعنى، هل منْ يضع إعلاناً عن استعداده لإجراء فحص جرثومة المعدة عبر هواء النفس أو تحليل الدم أو البراز مثلاً، يقول لهم إن الغالبية العظمى من الذين تُثبت نتائج التحاليل لديهم وجود الجرثومة تلك في المعدة لديهم، هي لا تتسبب بأية أعراض مرضية عندهم؟ وهل يقول لهم إن الأطباء، والإرشادات الطبية العلاجية، تقول إن التحليل هذا لا يُجرى إلا عند شكوى الإنسان من عسر الهضم أو أنه ثبت من خلال منظار المعدة وجود تغيرات مرضية من نوع التقرحات؟. وهل يقول لهم إن ثمة مخاوف طبية اليوم من أن معالجة الجرثومة هذه دونما داع إنما هي السبب وراء ظهور ما يُعرف بجرثومة المعدة السوبر، المُقاومة لمفعول المضادات الحيوية المُستخدمة عادة للقضاء عليها؟