رسالة من طفل فلسطيني ميّت
إلى جندي يهودي "حيّ"
عيناي مفتوحتان، لا أستطيع أن أغلقهما، ولا أظنّني أريد ذلك.
لا أريد أن أنام. على الأقل، ليس الآن..
يداي متعانقتان فوق صدري .
ثمة ثقب في رأسي وثقبٌ آخر أكثر اتساعاً في بطني، يشبه التجويف الداكن في الشجرة العجوز في حاكورة بيت خالتي. كنا نوشوش أسرارنا في التجويف.
بيت خالتي لم يعد قائماً الآن. لقد اقتُلع.
بيت عمّتي أيضاً، بمن فيه، انفجر.
وبيتنا كوم حجارة وتراب وأسياخ، أحدها اخترق جسد شقيقي الأوسط، وبضعة جدران واقفة، بعضها حملت شخابيطنا ورسوماتنا، التي كنا ننقشها بأقلام الشمع من وراء ظهر أمي.
تناثرت مزق من بطانيات حملت بقايا دماء أشقائي الثلاثة ولحمهم، الذي طُهي بنيرانكم.
تطايرت بعض أوراق، لم يأتِ عليها الذبح تماماً، من دفتر اللغة العربية... كنتُ قد نلتُ عشرة على عشرة في امتحان الإملاء الأخير. وضعت المعلّمة نجمة ذهبية على جبيني. سقطت النجمة، فحزنت. وعدتني أمي أن تشتري لي نجمة أخرى.
لا أعتقد أن أمي ستكون قادرة على أن تفي بوعدها لي.
أشتم رائحة أمي؛ رائحتها مزيج من رائحة الزيتون الأخضر المكبوس حديثاً والشاي والخبز المحمص والزيت والزعتر والصباحات المنقوشة بصوتها الدافئ تهمس في آذاننا وأجسادنا النعسانة كي ننهض لنذهب إلى المدرسة.
أعتقد أن أمّي ممددة في أرضية المستشفى الباردة في طرف الغرفة على مقربة مني. قد تزعل لو عرفت أن "بلوزتي"، التي ورثتها من شقيقي الأكبر، لن يرثها شقيقي الأصغر. فالشظايا التي اخترقت بطني أحدثت ثقباً كبيراً في "البلوزة". أمي تعرف كيف تعدِّل الملابس وتكيِّفها، فتقصِّر وتطوِّل، تُضيِّق وتوسِّع، تأخذ من هنا وتضيف إلى هناك، ترمّم وترقّع. "كلّ خبرة السنين وكل خبرة الألم وكلّ خبرة الحاجة واختراع الشيء من اللاشيء وخبرة الصبر والصمود ومحاربة اليأس لن تنفع مع البلوزة يا أمي"!
لكن شقيقي الأصغر قد لا يكبر ليرث ملابسي، أو ما تبقّى منها.
ككل الليالي الباردة المعتمة، التصقنا، أشقائي الثلاثة وأنا، نلتمس الدفء ونتحسّس البقاء.
أبي ذهب يبحث عن ربطة خبز ولم يكن قد عاد بعد.
أمي تمنّت لنا الحياة ومضت إلى شباك الغرفة المفتوح تراقب السماء، خشية أن تمطر تلك الأضواء المرعبة فتنهشنا كما نهشت أولاد الجيران المجاورين وأولاد الجيران الآخرين المجاورين وأولاداً آخرين ليسوا بعيدين جداً عنا.
شقيقي الأكبر أراد أن يؤجل نومنا وخوفنا، فروى لنا آخر مقلب له في المدرسة، قبل أن تغلق أبوابها بسبب عاصفة الموت التي هبت على وجودنا المُحاصر. كان قد غرس علكة على مقعد معلم الرياضيات فأفسدت بنطلونه. ضحكنا. ثم ضحكنا بحياة أكبر حين أشار إلى مؤخرته وحذرنا من أننا إذا نجونا من القصف الجوي فقد لا ننجو من "قصفه" هو! حتى شقيقي الأصغر قرقر، دون أن يعرف لماذا كنا نضحك. وحين قرصتنا بطوننا من الجوع، فضّت أمي محرمة قماش خبأت فيها نصف رغيف خبز ناشف وقسمته في ما بيننا... جوعانين مازلنا، فاقترح علينا شقيقي الأكبر أن نضغط على بطوننا بأيدينا، لنخنق الجوع. الحيلة نجحت.. إلى حين!
شقيقي الأصغر فقد ذراعه، التي كان يلفها حول عنقي، وشقيقي الأكبر، الذي تخلى، في غفلة منا، عن حصته من كسرة الخبز لشقيقي الأوسط فقد نصفه السفلي
. أين شقيقي الأوسط؟
هل انتزعوا السيخ من جسده؟
أتأمل أمي. وجهها، الذي ظل طوال الليل معلقاً في سماء الله، وقد أضاءته دموع صامتة وصلوات مخنوقة، انصهرت معالمه.
أيها الجندي اليهودي...
الآن، وقد انتهى كل شيء، أو هكذا تحسب، سوف تعود إلى ديارك.
سيتقافز صغارك فرحاً ما إن يروك تقف على باب البيت. سوف يتعلقون بعنقك، تفوح منهم رائحة وجود صحّي، طازج، مترع بالحياة.
سوف يسألونك عن الهدايا التي أحضرتها لهم. ...
هل أخذت لهم تذكاراً من بيتنا ومن لحمنا ومن حلمنا ؟
قد يسألونك عن الرائحة الغريبة العالقة بملابسك، فتقول لهم: "إنها لا شيء"...
تذهب إلى الحمام كي تغتسل، لكن الرائحة لا تزول. سوف تفرك جسمك بكل المنظفات في العالم دون جدوى...
هي رائحة خبزنا الناشف ودمنا المسفوح وعلب الحليب الفارغة في بيتنا وبيوت الجيران، هي رائحة غدنا المسروق منا، هي رائحة شوقنا المجهض قبل بزوغ الشمس، هي رائحة ليلنا، هي رائحة بردنا، هي رائحة خوفنا، هي رائحة رُعبنا، هي رائحة فراشنا الرطب، هي رائحة بطانياتنا، التي اختلطت بأشلائنا، هي رائحة موتنا.
مع الأيام، قد لا تزعجك الرائحة كثيراً؛ فقد اعتدتَ قتل صغار الآخرين، صغار جيرانك البعيدين.
انظرْ في عينيّ!
تأمّل وجهي! احفظه! احفظه جيداً، لأنك سوف تراني كثيراً.
كل صباح، سوف أجلس، بـ"بلوزتي" المثقوبة المدماة ورأسي المجوّف، إلى جانب أولادك على مائدة الفطور. (لا تخشَ شيئاً، لن تبقع دمائي الأرضية النظيفة)....
سوف أتفرّج عليهم يأكلون الحبوب المنقوعة بالحليب، التي يأكلها الأطفال في المسلسلات الأجنبية الذين كنا نشاهدهم في تلفزيوننا الملون الصغير
. لكنني لن آكل معهم.
سوف يجاور رأسي المجوّف رؤوسهم السليمة في صور العائلة المبتهجة، المثبتة على ثلاجة المطبخ... لكنني لن أكون مبتهجاً. بعيني المفتوحتين.
سأراقب صغارك يحلّون واجباتهم المدرسية؛ بعيني المفتوحتين، سأراقبهم يلهون على الأراجيح في الحديقة، ويعبؤون رمال الشاطئ الآمن في دلائهم البلاستيكية الملونة؛ بعيني المفتوحتين..
سأتبعهم إلى غرف نومهم، وأراهم يندسّون تحت البطانيات في غرفة نومهم الدافئة.. نافذة الغرفة لن تكون مفتوحة، والليل لن يكون بارداً.. كما لن يحمل لهم موتاً حاقداً.
ومع ذلك لن أنام، لتظل عيناي مفتوحتين...
انظرْ في عيني!
اعتباراً من هذه الليلة وكل الليالي "القادمات"، سوف يكون ليلي هادئاً..
.ليل أشقائي وليالي أولاد الجيران ستكون صافية... أمهاتنا لن يبكين، وإذا ما انتهين من أعمال البيت الشاقة سوف يروين لنا الحكايات ذات النهايات السعيدة.
سوف أرقّع الثقب في بطني وأسدّ التجويف في رأسي، وسوف أحيا...
سوف أحلّ واجباتي المدرسية المؤجلة... سآخذ الدرجات النهائية في كل المواد..
سأفوز بعشرات النجمات الذهبية، سألصقها على جبيني، على أرضي، وفي سمائي.
أيها الجندي اليهودي..
"اتطلّعْ" في عيني!
سوف تنبت لي أذرع من تحت الأرض...
أذرعي ستعانق أغصان الشجر، سوف تخفق مع أجنحة الطيور المحلقة فوق سياجنا وفوق حصارنا...
أذرعي سوف تصل إلى سمائك ووجودك غير المنيع..
أذرعي سوف تقبض على روحك.